عرف أبا العلاء المعرى بين كل شعراء تراثنا العربى بالشاعر الفيلسوف ,
وانخلعت هذه الصفة على شعره ,
فسبقت تذوق قرائه ُ, وجعلتهن يتلقونه فى اطار هذا التفلسف الذى صاحب قصائده ُ خاصتا ً فى ديوان (اللزوميات )الذى يضم شعر النضج الاكتمال ,
ولو أنهم بدأوا من النص الشعرى ذاته , وطرحوا ما خلعه النقاد والدارسون عليه من أوصاف ومسميات ,
إذا ً لأتيح لهم أن يستقبلوه استقبالا ً أخر ,
ولتوقفوا عند فيض شاعريته وأسرار صنعته الفنيه بأكثر مما خاضوا فى فكره ُ وتأملاته ُ وخروجه ُ عن المألوف وتمرده على السائد .
ولما عاناهم كثيرا ً ما انشغل به الباحثون من { إمانه أو شكه أو تدينه أو مروقه أو استعلاءه أو انعطافه }
وفى ديوان المعرى ( سقط الزند ) الذى يضم شعر الصبا
والشباب , أقباس من توهج هذه الشاعرية التى سيطفئها الفكر والتأمل فى مقبل العمر , عندما كان المعرى أقرب إلى روح استاذه ومثله الأعلى فى الشعر ( المتنبى ) وهو أيضا ً غير بعيد عن غنائية البحترى وجيشان موسيقاه ,
فلقد وقف المعرى طويلا ً على ديوانى الشاعرين مفسرا ً ومحللاً ,
فلقد أوقف جهده وأدبه على تفسير ديواني شعر ( المتنبى ) (والبحترى )
فى كتابيه ( معجز أحمد ) ( عبث الوليد )
فى وقتها كان شعر المعرى يتزيا ً بلغة لم يثقلها التفلسف , ولا مفردات البحث والتقصى ,
وكانت تندلع فيه نيران الشباب الجياش , بالرغبات والآمال والتطلعات , وحميا الإقبال على الدنيا ومحاولة اقتحامها ,
قبل أن يقترب النضج وينكسر سهم العمر والإرادة.
ويأوى أبو العلاء المعرى إلى سجونه الثلاثة وليس محبسيه ,
كما كان فى السابق
فكان فى السابق رهين المحبسين , وهما العمى وملازمته البيت ,
ولكنه فيما بعد أصبح رهين السجون الثلاثة كما قال بنفسه
أرانى فى الثلاثة من سجونى
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدى ناظرى , ولزوم بيتى
وكون النفس فى الجسد الخبيث
نحن الأن إذا ً أمام سجين لثلاثة سجون وليس رهين محبسين فقط !
لندع الأن أشعار أبى العلاء الفلسفية ونعود للوراء فى شبابه وقتما كانت شبابه مولع بالحب والغرام ,
ولنرى مشاعر هذا الشاعر فى الغرام والحب
إلى كم أُمنى القلب , والقلب مُولع
وأزجر طرف العين , والطرف يدمع ُ
وحتى متى أشكو فراق أحبة
عفا بالنوى منهم مصيف , ومربع ُ؟!
وأستعرض الركبان عنهم مسائلا ً
عسى خبر عنهم به الركب يرجع ُ
تصبرت عنهم وانثنيت إليهمو
ولم يبق فى قوس التصبر منزع ُ
أراعى نجوم الليل , أرقب طيفهم
وكيف يزور الطيف من ليس يهجع ُ ؟!
وما زلت أبكى لؤلؤا ً بعد بينهم
إلى أن بدا مرجان دمعى يهمع ُ
وما كان تبكى العين , لولا فراقهم
عقيقا ً , ولا يشفى الفؤاد طُويلع ُ
فلا حاجر بين الأحبة حاجر
ولا لعلع مذ فارق الحى لعلع ُ
غربن شموسا ً فى بدر أكلة
فليس لها إلا من الخدر مطلع ُ
وشابهن غزلان النقا فى نفارها
ولكنها بين الترائب ترتع ُ
لها من مهمات الرمل عين مريضة
وجيد الظبى أغيد أتلع ُ
ومن قضب البان الرطبان معاطف
تكاد عليها الورق تشدو , وتسجع ُ
وتغدو سيوف الهند لما تشبهت
بألحاظها فى الحرب تفرى وتقطع ُ
ذكرتهمو والقلب بالهم طافح ُ
لبينهمو , والبحر كالليل أسفع ُ
وما تنفع الذكرى لمن حُبهم قلى
ووصلهمو قطع , وفيه تمنع ُ
ولا عجب فالبخل فى الغيد والدمى
طبيعة نفس ليس فيها نطبع