الشاعر أحمد مخيمر , شاعر مصرى ,
ولد عام 1914 ميلادى وتوفى 1978 ميلادى
كان شاعر متميز بين كوكبة الشعراء التى التمعت أسماؤها فى ختام ثلاثينيات القرن الماضى ,
وكان عضو بارز فى جماعة أبوللو الشعرية , والتى تعد واحدة من أكبر حركات التجديد فى الشعر العربى الحديث ,
وكان من نجوم هذه الجماعة { إبراهيم ناجى , على محمود طه , محمود حسن إسماعيل , محمود أبو الوفا ,أحمد فتحى طاهر أبو فاشا } وغيرهم .
ولكن كان من بين كل هؤلاء الشاعر أحمد مخيمر , أكثرهم ميلا ً من حيث الطبع والنزوع الفلسفى والفكر والتأمل ,
مما سيجعله يتجه إلى كتابه ( لزوميات مخيمر ) على نهج لزوميات أبى العلاء المعرى .
واليوم معنا للشاعر أحمد مخيمر ملحمة شعرية طويله بعنوان { الروح القدس } وتبلغ 5150 بيتاً من الشعر ( خمسة آلاف ومائة وخمسين بيتا ً ) .
هذه الملحمة الشعرية الفريدة تجمع بين الروحى والوطنى والقومى والإنسانى , ويتدفق وجدان الشاعر بأنغام هذا العالم الشعرى ,
الذى يؤكد فيه الشاعر من خلاله انتماءه لوطنه وإنسانيته وحرصه على أن يكون صوتا ً فى قافلة التقدم والتنوير ,
وأن يرد عن وطنه العربى كل ألوان الغدر والإستعباد ,
داعيا ً أن يكون الإنسان فى مستوى اللحظة والموقف والوجود , وأن ييتماس صفوف الأمة العربية , من خلال عمل موحد ,
وألا تيأس مهما تراكمت الأحزان , وادلهمت الظلمات وأوشك الناس أن يفقدوا إيمانهم بالغد .
فى ملحمة { الروح القدس } يطلب جبريل عليه السلام من الحضرة العلية أن يأذن له بالهبوط إلى الأرض فى صورة بشرية ليعيش بين الناس ويحيا مشاعرهم وأفكارهم ويوجههم إلى القيم والمثل العليا .
لقد ظل طويلا ً يهبط إلى الرسل بالرسالات التى يبلغوها للبشر ,
أما الآن فهو يريد أن يهبط إلى الأرض ,
وأن يبلغ الناس مباشرة ً , وأن يوضح لهم طريق الصواب .
وسرعان ما تمضى أحداث الملحمة , لقد استجابت الحضرة العلية لرغبة جبريل ,
الذى تحول إلى روح عارمة تدفع الشعب إلى الإيمان العميق بقوته , وبقدرته على النضال من أجل مستقبله , والثقة الكاملة فى النصر على أعدائه ,
وتتصاعد الأحداث فى الملحمة وصولا ً إلى توهج النضال من أجل تحرير فلسطين وتدعيم كفاح الفدائيين .
أما اللغة الشعرية التى أبدع بها مخيمر ملحمته , فيقول صديق عمره ورفيقة فى الحياة الشاعر عبد العليم عيسى فى تقديم لها : شعر أحمد مخيمر يمتاز بإحكام النسج وجمال التصوير وانتقاء اللفظ الدال المعبر بأمانة عن شعورة وإحساسه يسلعد هذا على ملكة فنية , وملكة لغوية , واستعداد فطرى متميز , لكنه قد بلغ الذروة فى شعره فى الطبيعة .
ولنرى بعض أجزاء هذه الملحمة .
{الروح القدس } للشاعر أحمد مخيمر
قال جبريل , وهو فى حضرة العلية
: إلهى , غمرتنى بالنعيم
وجعلت الخلود حظى ووشعت
جناحى بالسرور العظيم
ووهبت السماء لى بعد أن
أبعدت قلبى عن العذاب الأليم
وكشفت الغيوب حتى وعتها
الروح فى نورك اللطيف الرحيم
غير أنى أرانى اشتقت للأرض
كما كنت فى الزمان القديم
قال رب الوجود , والمون ساج ٍ
موغل فى الهدؤ والإصغاء
كل شىء كأنما غمرته
فرحات الرضا بظل البقاء
أيها الروح كيف تجهل أن الأرض
أمست فريسة الشقاء
كانت الارض للبديهة , والروح
فأمست لعقلها , والذكاء
ذهب الأنبياء عنها , فهامت
فى أساها تحيا بلا أنبياء
أيها الروح سوف تغدوا غريبا ً
وترى اليأس , أين كنت , قريبا ً
لن ترى أنفس الآنام نفوسها
طاهرات, ولا القلوب قلوبا ً
لن ترى أمسها الذى ضاع , منضورا ً
ولا يومها الغوى رطيبا
ومعين الأرواح أنضبه اليأس
وألقى عليه ظلا ً كئيبا
وضياء السماء أمسى ظلاما ً
وغناء السماء أمسى نعيبا
أيها الروح , هل سئمت من الآباد !
هل شاقت روحك اللحظات
لحظات الخلود قد نسجتها
لا نهايات قلبك الجاثيات
لحظات كأنما نغمات
وصلتها المشاعر الخالدات
وكأن الزمان فى سبحات الأرض
مما تبثه , قطرات
أترى مثلها على الأرض أم فيها
الليالى الغوية الفانيات
قال جبريل , يا إلهى , لك الملك
ولى منك كل النعيم
اعف عنى , إذا أسأت خطابى
وتلفت فى المقام العظيم
إنما عفوك المقدس عنى
خير ما فى الوجود من تكريم
ورضاك الكريم أعظم مما
أرتجيه من الخلود المقيم
وبنور العرش الذى ملأ الكون
يلذ الدنو غير أثيم
كيف لا يعبدون وجهك يارب
ولا يعشقون نور الكمال
ياجمال الجمال , أشجيت روحى
فتغنيت , ياجمال ياجمال
أنا فى لهفة الصلاة , وفى شوق
المصلى , وفى ذهول الجلال
أنا فى نشوة العبادة أدعوك
فتحيى رغبائى باتصالى
فى تجليك تشعر الروح أنى
فى خيال , يفوق كل خيال
يا إلهى إن الجمال الذى حولى
قد امتد فى رحاب السماء
نابع من سناك , ينساب فى الكون
غريب البريق , واللألاء
شاقنى أن أراه , إنى ظمآن
إلى نوره الغريب النائى
شاقى , شاقنى , كأنى محروم
دنا من ظلاله الرجاء
وعجيب أنى أحس له لحنا ً
شجى الصدى , خفى النداء
أيها الروح , أى نعماى تختار
وماذا من الوجود تريد
حالة كالتى يحسن بها الإنسان
إن مسه الغرام المربد ؟!
أم شعور بالخلد فى كل حين
هو حى فى كل حين ؟ جديد ؟!
أم شعور بالقبلة الأولى
إذا ذاقها المحب العميد؟!
أم شعور الذى يناجى سماواتى
يمتد , فهو باق , فريد
أيكة الغيب , كل ظل لديها
فى يديك الوضيئتين غصونه
وجناه , سقته عيناك بالدمع
فرفت خدوده , وعيونه
وهفت فوقه السكينة والحب
ومس النسيم فيها حنينه
عانقته أفراح روحك حتى
بللت صفحة الضياء جفونه
راحة الشوق فى فؤادى ترعاه
وأحلامك العذاب تصونه
أيها الروح , لم يعد أنبياء ,
غضبت من بنى الحياة السماء
شغلتهم لذائذ الأرض عنها
وطواهم عن أن يروها الشقاء
ومشوا فى عماية الرغبات السود
لم يعش ناظريهم ضياء
قادهم للمصير , والليل والظلماء
عقل يحثهم , وذكاء
كيف تهوى إليهم اليوم , أم كيف
يرجى من هؤلاء اللقاء ؟
نكتفى بهذا القدر من ملحمة {الروح القدس }
فهى كما أسلفنا الذكر خمسة ألآف ومائة وخمسين بيت .